من قصص الطفولة ترسبت في ذهني صورة العجوز الشريرة ، قصص الأطفال دائما ترسمها وتصورها هكذا ، الساحرة الشريرة امرأة عجوز تستند إلي عصاها والمرأة في قصص سندريلا أو الأميرة النائمة أو حتى حواديت جدتي الريفية تؤكد هذا المعني وتضيف المزيد من التفاصيل للصورة.
الوجه مجعد لا يفارقه العبوس والأنف معقوف والصوت عالي متهدج يثير القلق والطبع حاد قاسي لا يعرف الرحمة والشر مجاني ، فهي تمارس الشر وتؤذي من حولها بلا سبب وبلا مقابل ، وخاصة إذا كانت تتعامل مع الأميرة الجميلة الشابة البريئة.
واجهتها يوما وتعاملت معها مباشرة حين تزوجت ، إنها حماتي فقد كانت صورة لخيال المرأة الشريرة ، أحاول مراضاتها فلا ترضى وأجلب لها هدية فتلقيها جانبا وتبدأ الهمسات تكثر في أذني ، تقول زوجة الابن الأكبر (لا فائدة معها دعيها وشأنها) وتقول زوجة الابن الأصغر (أنت طيبة جدا تضيعين وقتك مع من لا تقدر)
كنت لا أراها إلا في الإجازات والمناسبات لبعد المسافة بيننا وإصرارها على ملازمة بيتها ، أما من ينصحونني فهن من يعاشرنها ويعشن معها في نفس البيت ، بيتها ، صحيح كل منهما في شقتها ولكن التعامل اليومي بينهن لا ينقطع.
تعبت العجوز يوما تعبا شديدا وجاءت عندي في بيتي في القاهرة للعلاج ، وبدأت أتعايش معها وأستنتج من تعاملي اليومي لماذا هي هكذا ؟
كانت مريضة تعاني ولا تجد من يحنو عليها ، حتى أنها تستغرب أن تمتد إليها يد بالخير ، تتأوه في المساء وتنتابها رغبة ملحة في الذهاب للحمام فتجدنا بين يديها ، تصحو مبكرة جدا فتساعدها ابنتي (حفيدتها) في تناول الطعام وتقدم لها كوب (الينسون) الذي تحبه.
وهكذا سارت الأمور ، هدأت السيدة واستكانت وتعافت نسبيا ولكننا قررنا أن تبقى معنا ، فهي ليست شريرة بل الأشرار هم من كانوا يعاملونها بإهمال ويتركونها وحدها تعاني في وحدتها وتتخبط في دياجير شيخوختها الواهنة.
كيف كانوا يتوقعون أن تكون سعيدة مستبشرة وقد تحولت حياتها لسلسلة من الألم والعذاب ؟ ، كانت قد كفت عن استجداء المساعدة لأنها يئست ممن حولها حتى أبناء بطنها ، فكل ما يملكونه هو سؤال سريع بصوت متضجر (كيف حال صحتك يا حاجة ؟ هل تريدين شيئا ؟) ثم يختفون قبل أن يسمعوا الإجابة.
وماذا كان بوسعها أن تقول ؟ هل تقول نعم أريد كل شئ وليس شيئا واحدا ؟ أريد رد الجميل وتطبيق بر الأم ، أريد حبك وصبرك يا بني كما منحته لك سابقا حتى صرت رجلا ، أريد مؤانستك أنت وأولادك لأشعر أن لي عائلة ، أريد اللمسة الإنسانية.
يحتاج البشر دوما للتلامس الحاني وبدونه يستوحشون الحياة ، تحتاج السيدة العجوز احتضان ابنها لها وتقبيل رأسها والتربيت على يدها ، تحتاج أن تلمس يد حفيدها الوليد وتسمع مناغاته وهو في حجرها ، تحتاج من يستمع لكلامها المبعثر ويلم شعث ذكرياتها الحلوة ويستجلب لها لمحة من الماضي السعيد.
تحتاج من يقرأ لها ومعها ما تعرفه من آيات القرآن الكريم ويؤكد معها أساسيات الإسلام ، ويبشرها بالخير والرحمة ، تحتاج من يشعرها أن حياتها لها معني ووجودها ليس عبئا علي أحد ، تحتاج ألا تشعر أنها شريرة لمجرد أنها ما زالت على قيد الحياة وسط أناس ضاقوا بها ويريدون تعجل أجلها.
رعايتها صعبة لكنها تفك لك ألغاز الحياة وتجعلك تقف وجها لوجه أمام حقيقتها ، دنيا زائلة فانية ، بعد أن تمتلك كل شئ فيها تجد بين يديك قبض الريح وأمام عينيك سراب الأماني ، الجمال والشباب والصحة لا نمتلكها بل هي سحابة صيف تظللنا بعض الوقت ثم تنقشع ، السعادة الزوجية والاستمتاع بالجاه والولد حالة مؤقتة إلى زوال ، لا يبقى إلا شيء واحد: العمل الصالح الذي يوضع في ميزان الحسنات ، أما المال فهو وإن بقي للنهاية فإن غيرنا هو من يتمتع به ثم نتركه وراءنا ونمضي.
نمضي من دنيا قدمنا إليها ونحن نبكي والناس من حولنا يضحكون ويحتفلون فرحا بقدومنا ، إلي آخرة يتعجلون مفارقتنا إليها ويكادوا يدفعوننا دفعا للنهاية ضجرا ومللا من وجودنا وظلنا الثقيل علي قلوبهم.
نحن نعطي عندما يكون لدينا ما نعطيه أما إذا نضب المعين وأتى عليه المرض والشيخوخة والوهن فمن أين نعطي ؟ نحن هنا نستحق الأخذ ممن سبق وأعطيناهم
فإذا وجدنا اليد الحانية والقلب المفتوح والوجه البشوش فسوف نستسلم لراحة آخر العمر ..
ووقتها لن تكون العجوز شريرة.